الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء **
ومن كتب الحسن بن زكرويه إلى عماله ما هذه نسخته بعد البسملة: من عند المهدي المنصور بالله الناصر لدين الله القائم بأمر الله الحاكم بحكم الله الداعي إلى كتاب الله الذاب عن حرم الله المختار من ولد رسول الله أمير المؤمنين وإمام المسلمين ومذل المنافقين وخليفة الله على العالمين وحاصد الظالمين وقاصم المعتدين ومبيد الملحدين وقاتل القاسطين ومهلك المفسدين وسراج المستبصرين وضياء المستضيئين ومشتت المخالفين والقيم بسنة سيد المرسلين وولد خير الوصيين صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم كثيراً . سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلي على محمد جدي رسول الله. أما بعد: فقد أنهى إلينا ما حدث قبلك من أخبار أعداء الله الكفرة وما فعلوه بناحيتك من الظلم والعبث والفساد في الأرض فأعظمنا ذلك ورأينا أن ننفذ إلى ما هنالك من جيوشنا من ينتقم الله به من أعدائه الظالمين الذين يسعون في الأرض فسادا فأنقذنا عطيراً داعيتنا وجماعة من المؤمنين إلى مدينة حمص وأمددناهم بالعساكر ونحن في أثرهم وقد أوعزنا إليهم في المصير إلى ناحيتك لطلب أعداء الله حيث كانوا ونحن نرجو أن يجزينا الله فيهم على أحسن عوائده عندنا في أمثالهم. فينبغي أن تشد قلبك وقلوب من اتبعك من أوليائنا وتثق بالله وبنصره الذي لم يزل يعودنا في كل من مرق عن الطاعة وانحرف عن الإيمان وتبادر إلينا بأخبار الناحية وما يحدث فيها ولا تخف عنا شيئا من أمرها إن شاء الله. سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على جدي محمد رسوله وعلى أهل بيته وسلم كثيرا. وسلم القاسم بن أحمد أبو الحسين خليفة الحسن بن زكرويه فقدم سواد الكوفة إلى زكرويه بن مهرويه فأخبره بخبر القوم الذين استخلفهم ابنه عليهم وأنهم اضطربوا فخافهم وتركهم فلامه زكرويه على قدومه لوما شديدا وقال له: ألا كاتبتني قبل انصرافك إلي. ووجده مع ذلك على خوف شديد من طلب السلطان ومن طلب أصحاب عبدان. ثم إنه أعرض عن أبي الحسين وأنفذ إلى القوم في سنة ثلاث وتسعين رجلا من أصحابه كان معلما يقال له محمد بن عبد الله بن سعيد ويكنى بأبي غانم فتسمى نصرا ليعمى أمره وأمره أن يدور أحياء كلب ويدعوهم فدار ودعاهم فاستجاب له طوائف من الأصبغيين ومن بني العليص فسار بهم نحو الشام وعامل المكتفي بالله يومئذ على دمشق والأردن أحمد بن كيغلغ وهو بمصر في حرب ابن الخليج فاغتنم ذلك محمد ابن عبد الله المعلم وسار إلى بصرى وأذرعات فحارب أهلها وسبى ذراريهم وأخذ جميع أموالهم وقتل مقاتلنهم وسار يريد دمشق فخرج إليه جيش مع صالح بن الفضل خليفة أحمد بن كيغلغ فظهروا عليه وقتلوا عسكره وأسروه فقتلوه وهموا بدخول دمشق فدافعهم أهلها فمضوا إلى طبرية فكانت لهم وقعة على الأردن غلبوا فيها ونهبوا طبرية وقتلوا وسبوا النساء. فبعث المكتفي بالحسين بن حمدان في طلبهم مع وجوه من القواد فدخل دمشق وهم بطبرية فساروا نحو السماوة وتبعهم ابن حمدان في البرية فأخذوا يغورون ما يرتحلون عنه من الماء فانقطع ابن حمدان عنهم لعدم الماء ومال نحو رحبة مالك بن طوق فأسرى القرامطة إلى هيت وأغاروا عليها لتسع بقين من شعبان سنة ثلاث وتسعين ونهبوا الربض والسفن التي في الفرات وقتلوا نحو مائتي إنسان. ثم رحلوا بعد يومين بما غنموه فأنفذ المكتفي إلى هيت محمد بن إسحاق بن كنداج في جماعة من القواد بجيش كثيف وأتبعه بمؤنس فإذا هم قد غوروا المياه فأنفذ إليهم من بغداد بالروايا والزاد وكتب إلى ابن حمدان بالنفوذ إليهم من الرحبة. فلما أحسوا بذلك ائتمروا بصاحبهم المعلم ووثب عليه رجل من أصحابه يقال له الذئب بن القائم فقتله وشخص إلى بغداد متقربا بذلك فأسنيت له الجائزة وكف عن طلب قومه وحملت رأس القائم المسمى بنصر المعلم إلى بغداد. ثم إن قوما من بني كلب أنكروا فعل الذئب وقتله المعلم ورضيه آخرون فاقتتلوا قتالا شديدا وافترقوا فرقتين فصارت الفرقة التي رضيت قتل المعلم إلى عين التمر وتخلفت الأخرى وبلغ ذلك زكرويه وأحمد بن القاسم عنده فرده إليهم فلما قدم عليهم جمعهم ووعظهم وقال: أنا رسول وليكم وهو عاتب عليكم فيما أقدم عليه الذئب بن القائم وأنكم قد ارتددتم عن الدين. فاعتذروا وحلفوا ما كان ذلك بمحبتهم وأعلموه بما كان بينهم من الخلف والحرب فقال لهم: قد جئتكم الآن بما لم يأتكم به أحد تقدمني يقول لكم وليكم: قد حضر أمركم وقرب ظهوركم وقد بايع له من أهل الكوفة أربعون ألفا ومن أهل سوادها أكثر وموعدكم اليوم الذي ذكره الله في شأن موسى صلى الله عليه وسلم وعدوه فرعون إذ يقول: موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فأجمعوا أمركم وسيروا إلى الكوفة فإنه لا دافع لكم عنها ومنجز وعدي الذي جائتكم به رسلي. فسروا بذلك وارتحلوا نحو الكوفة فنزلوا دونها بستة وثلاثين ميلا قبل يوم عرفة بيوم من سنة ثلاث وتسعين فخلفوا هناك الخدم والأموال وأمرهم أن يلحقوا به على ستة أميال من القادسية. ثم شاور الوجوه من أصحابه في طروق الكوفة أي وقت فاتفقوا على أن يكمنوا في النجف فيريحوا الخيل والدواب ثم يركبوا عمود الصبح فيشنوها غارةً والناس في صلاة العيد. فركبوا وساروا ثم نزلوا فناموا فلم يوقظهم إلا الشمس يوم العيد لطفاً من الله بالناس فلم يصلوا إلى الكوفة إلا وقد انقضت الصلاة وانصرف الناس وهم متبددون في ظاهر الكوفة ولأمير البلد طلائع تتفقد وكان قد أرجف في البلد بحدوث فتن فأقبلوا ودخلت خيل منهم الكوفة فوضعوا السيف وقتلوا كثيرا من الناس وأحرقوا فارتجت الكوفة وخرج الناس بالسلاح وتكاثروا عليهم يقذفونهم بالحجارة فقتلوا منهم عدةً وأقبل بقيتهم فخرج إليهم إسحق بن عمران في يسير من الجند وتلاحق به الناس فاقتتلوا قتالا شديدا في يوم صائف شديد الحر فانصرف القرامطة مكدودين فنزلوا على ميلين من الكوفة ثم ارتحلوا عشاء نحو سوادهم واجتازوا بالقادسية وقد تأهبوا لحربهم فانصرفوا عنها وبعث أمير الكوفة بخبر ذلك إلى بغداد. وسار القرامطة إلى سواد الكوفة فاجتمع أحمد بن القاسم بزكرويه بن مهرويه وكان مستترا فقال للعسكر: هذا صاحبكم وسيدكم ووليكم الذي تنتظرونه. فترجل الجميع وألصقوا خدودهم بالأرض وضربوا لزكرويه مضربا عظيما وطافوا به وسروا سروراً عظيما واجتمع إليهم أهل دعوته من السواد فعظم الجيش جدا. وسير المكتفي جيشا عظيما فساروا بالأثقال والبنود والبزاة على غير تعبئة مستخفين بالقوم فوصلوا وقد تعب ظهرهم وقل نشاطهم فلقيهم القرامطة وقاتلوهم وهزموهم ووضعوا فيهم السيوف فقتل الأكثر ونجا الأقل إلى القادسية فأقاموا في جمع الغنائم ثلاثاً فكان من قتل من الجيش نحو الألف وخمسمائة فقويت القرامطة بما غنموا وبلغ المكتفي فخاف على الحاج وبعث محمد ابن إسحاق بن كنداج لحفظ الحاج وطلب القرامطة وضم إليه خلقا عظيما. فسار القرامطة وأدركوا الحاج فأخذوا الخراسانية لإحدى عشرة خلت من المحرم سنة أربع وتسعين ووضعوا فيهم السيف وقتلوا خلقا عظيما واستولى زكرويه على الأموال. وقدم ابن كنداج فأقام بالقادسية وقد أدركه من هرب من حاج خراسان وقال: لا أغدر بجيش السلطان. وقدمت قافلة الحاج الثانية والثالثة فقاتلوا القرامطة قتالا شديدا حتى غلبوا وقتل كثير من الحاج واستولوا على جميع ما في القافلة وأخذوا النساء ولم يطلقوا منهم إلا من لا حاجة لهم فيها ومات كثير من الحاج عطشاً ويقال إنه هلك نحو من عشرين ألفا فارتجت بغداد لذلك. وأخرج المكتفي الأموال لإنفاذ الجيوش من الكوفة لإحدى عشرة بقيت من المحرم . وخزائن السلاح. ورحل زكرويه فلم يدع ماء إلا طرح فيه جيف القتلى وبث الطلائع فوافته القافلة التي فيها القواد والشمسة وكان المعتضد جعل فيها جوهرا نفيسا ومعهم الخزانة ووجوه الناس والرؤساء ومياسير التجار وفيها من أنواع المال ما يخرج عن الوصف فناهضهم زكرويه بالهبير وقاتلهم يومه فأدركتهم قافلة العمرة وكان المعتمرون يتخلفون للعمرة بعد خروج الحاج ويخرجون إذا دخل المحرم ويتفردون قافلة وانقطع ذلك من تلك السنة فاجتمع الناس وقاتلوا يومهم وقد نفد الماء فملك القافلة وقتل الناس وأخذ ما فيها من حريم ومال وغيره وأفلت ناس فمات أكثرهم عطشا وسار فأخذ أهل فيد. وأما بغداد فإنه حصل بها وبالكوفة وجميع العراق مصاب بحيث لم يبق دار إلا وفيها مصيبة وعبرة سائلة وضجيج وعويل واعتزل المكتفي النساء هما وغما وتقدم بالمسير خلف زكرويه وأنفذ الجيوش فالتقوا مع زكرويه لسبع بقين من ربيع الأول فاقتتلوا قتالا شديدا صبر فيه الفريقان حتى انهزم زكرويه وقتل أكثر من معه وأسر منهم خلق كثير وطرحت النار في قبته فخرج من ظهرها وأدركه رجل فضربه حتى سقط إلى الأرض فأدركه رجل يعرفه. فأركبه نجيباً فارهاً وسار به إلى نحو بغداد فمات من جراحا كانت به وصبر وأدخل به إلى بغداد ميتا فشهر كذلك ومه حرمه وحرم أصحابه وأولادهم أسرى ورءوس من قتل بين يديه في الجوالقات ومات خبر القرامطة بموت زكرويه. ودعوتهم ذكرها شائع. سنة خمس وتسعين ومائتين خرج رجل من السواد من الظط يعرف بأبي حاتم الظطي فقصد أصحاب البوراني داعيا وهم يعرفون بالبورانية وحرم عليها الثوم والبصل والكرات والفجل وحرم عليهم إراقة الدم من جميع الحيوان وأمرهم أن يتمسكوا بمذهب البوراني وأمرهم بما لا يقبله إلا أحمق وأقام فيهم نحو سنة ثم زال فاختلفوا بعده فقالت طائفة: زكرويه بن مهرويه حي وإنما شبه على الناس به. وقالت فرقة: الحجة لله محمد بن إسماعيل. ثم خرج رجل من بني عجل قرمطي يقال له محمد بن قطبة فاجتمع عليه نحو مائة رجل فمضى بهم نحو واسط فنهب وأفسد فخرج إليه آمر الناحية فقتلهم وأسرهم. ثم خمدت أحوال القرامطة إلى أن تحرك أبو طاهر بن أبي سعيد الجنابي وعمل على أخذ البصرة سنة عشر وثلاثمائة فعمل سلالم عراضا يصعد على كل مرقاة اثنان سورافيت إذا احتيج إليها نصبت وتخلع إذا حملت فرحل يريد البصرة فلما قاربها فرق السلاح وحشى الغرائر بالرمل وحملها على الجمال فسار إلى السور قبل الفجر فوضع السلالم وصعد عليها قوم ونزلوا فوضعوا السيف وكسروا الأقفال فدخل الجيش فأول ما عملوا أن طرحوا الرمل المحمول في الأبواب ليمنع من غلقها وبدر لهم الناس ومعهم الأمير فقاتلوا وقتل الأمير فأقاموا النهار يقتتلون حتى حجز بينهم الظلام فخرجوا وقد قتل من الناس مقتلة عظيمة فباتوا ثم باكروا البلد فقاتلوا ونهبوا. ثم رحلوا إلى الأحساء فأنفذ السلطان عسكراً وكان أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان قد قلد أعمال الكوفة والسواد وطريق مكة فدخل في أثرهم وأسر منهم وعاد. فلما قدمت قوافل الحاج اعترضها أبو طاهر القرمطي فقتل منهم وأدركهم أبو الهيجاء ابن حمدان بجيوش كثيرة فحملت القرامطة عليهم فهزموهم وأخذ أبو الهيجاء أسيرا فلما رآه أبو طاهر تضاحك وقال له: جئناك عبد الله ولم نكلفك قصدنا.
فتلطف له أبو الهيجاء حتى استأمنه وأمر بتمييز الحاج وعزل الجمالين والصناع ناحية فأخذوا ما مع الحاج وخلوهم فردوا بشر حال في صورة الموتى ورحل من الغد من بعد أن أخذ من أبي الهيجاء وحده نحو عشرين ألف دينار مع أموال لا تحصى كثرة ثم أطلق أبا فلما كان في سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة خرج من بغداد جيش كثيف لحفظ الحاج فلقي أبو طاهر القرمطي الحاج بالعقبة فرجع الحاج إلى الكوفة فتبعهم القرمطي حتى نزل بظاهرها لثلاث عشرة خلت من ذي القعدة فناوشه الناس وانكفأ راجعاً ثم باكرهم بالقتال وخرجت إليه جيوش السلطان فقاتلهم وهزمهم وقتل قوادهم وكثيرا من العامة ونهب البلد إلى العشرين منه فرحل عن البلد. فلما كان في سنة خمس عشرة وثلاثمائة خرج القرمطي من بلده لقتال ابن أبي الساج وقد كان السلطان أنزله في جيش كثير بواسط ليسير إلى بلد القرمطي فاستصعب مسيره لكثرة من معه وثقل عليه سيره في أرض قفر فاحتال على القرمطي وكاتبه باظهار المواطأة وأطمعه في أخذ بغداد ومعاضدته فاغتر بذلك ورحل بعيال وحشم وأتباع وجيشه على أقوى ما يمكنه وأقبل يريد الكوفة. ورحل ابن أبي الساج بجيشه عن واسط إلى الكوفة وقد سبقه القرمطي ودخلها لسبع خلون من شوال فاستولى عليها وأخذ منها الميرة وأعد ما يحتاج إليه وأقبل ابن أبي الساج على غير تعبئة وعبر مستهينا بأمر القرمطي مستحقرا له ثم واقعه وهو في جيش يضيق عنه موضعه ولا يملك تدبيره وقد تفرق عنه عسكره وركبوا من نهب القرى وأذى الناس وإظهار الفجور شيئا كثيرا فأقبل إليه القرمطي وقاتله فانهزمت عساكر ابن أبي الساج بعد ما كثرت بينهما القتلى والجراح فقتلوا الناس قتلا ذريعاً حتى صاروا في بساط واحد نحو فرسخين أو أربع واحتوى على عسكره ونهب الأكرة من أهل السواد ما قدروا عليه وأقام أربعين يوماً وخرج بعد أن يئس من مجيء عسكر إليه فقصد بغداد ونزل بسواد الأنبار وعبر الفرات إلى الجانب الغربي وتوجه بين الفرات ودجلة يريد بغداد فجيش الجيش إليه وسار مؤنس حتى نازله على نحو ثلاثة فراسخ من بغداد وقاتل القرامطة قتالا شديداً وورد كتاب المقتدر يأمر مؤنسا بمعاجلته القتال ويذكر ما لزم من صرف الأموال إلى وقت وصوله. فكتب إليه: إن في مقامنا أطال الله بقاء مولانا نفقة المال وفي لقائنا نفقة الرجال ونحن أحرياء باختيار نفقة المال على نفقة الرجال. ثم أنفذ إلى القرمطي يقول له: ويلك ظننتني كمن لقيك أبرز لك رجالي والله ما يسرني أن أظفر بك بقتل رجل مسلم من أصحابي ولكني أطاولك وأمنعك مأكولا ومشروبا حتى آخذك أخذاً بيدي إن شاء الله. وأنفذ يلبق في جيش للإيقاع بمن في قصر ابن هبيرة فعظم ذلك على القرمطي فاضطرب وأخذ أصحابه يحتالون في الهرب وتركوا مضاربهم فنهب مؤنس ما خلفوه وسار جيش القرمطي من غربي الفرات وسار مؤنس من شرقيه إلى أن وافى القرمطي الرحبة ومؤنس يحتال في إرسال زواريق فيها فاكهة مسمومة فكان القرامطة يأخذونها فكثرت الميتة فيهم وكثر بهم الذرب وظهر جهدهم فكروا راجعين وقد قل الظهر معهم فقاتلوا أهل هيت وانصرفوا مفلولين فدخل الكوفة على حال ضعف وجراحات وعلل لثلاث خلون من رمضان سنة ست عشرة وثلاثمائة فأقام بها إلى مستهل ذي الحجة ولم يقتل ولا نهب ثم رحل. فلما كان في سنة سبع عشرة رحل بجيشه فوافى مكة لثمان خلون من ذي الحجة فقتل الناس في المسجد قتلا ذريعا ونهب الكعبة وأخذ كسوتها وحليها ونزع الباب وستائره وأظهر الاستخفاف به وقلع الحجر الأسود وأخذه معه وظن أنه مغناطيس القلوب وأخذ الميزاب أيضا. وعاد إلى بلده في المحرم سنة ثماني عشرة وقد أصابه كد شديد وقد أخذ ستة وعشرين ألف حمل خفا وضرب آلاتهم وأثقالهم بالنار واستملك من النساء والغلمان والصبيان ما ضاق بهم الفضاء كثرةً وحاصرته هذيل فأشرف على الهلكة حتى عدل به دليل إلى غير الطريق المعروف إلى بلده. فلما كان في شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة سار إلى الكوفة فعاث عسكره في السواد وبعث أبو طاهر سرية في البحر نحو أربعين مركبا فوضعوا السيف في أهل الساحل ولم يلقوا أحدا إلا قتلوه من رجل وامرأة وصبي فما نجا منهم إلا من لحق بالجبال وسبوا النساء واجتمع الناس فقتلوا منهم في الحرب معهم خلقا كثيرا وأسروا جماعة ثم تحاملوا عليهم وتبادوا بالشهادة وجدوا فقتلوا أكثرهم وأخذوا جميع من بقى أسرا بحيث لم يفلت منهم أحد وحملت الأسرى إلى بغداد مع الرءوس وهم نحو المائة رجل ومائة رأس فحبسوا ببغداد. ثم خلصوا وصاروا إلى أبي طاهر فكانوا يتحدثون بعد خلاصهم إلى أبي طاهر أن كثيرا من الكبراء وغيرهم كانوا يرسلون إليهم بما يتقربون به إليهم وكان سبب خلاصهم مكاتبة جرت بينهم بالمهادنة على أن يردوا الحجر الأسود ويطلق الأسرى ولا يعترضوا الحاج فجرى الأمر على ذلك. ودخل القرمطي في سنة ثلاث وعشرين إلى الكوفة والحاج قد خرج في ذي القعدة وعاد الحاج إلى الكوفة ولم يقدر على مقاومتهم فظفر بمن ظفر منهم فلم يكثر القتل وأخذ ما وجد. وبلغ القرمطي أن رجلا من أصحابه قال: والله ما ندري ما عند سيدنا أبي طاهر من تمزيق هؤلاء الذين من شرق الأرض وغربها واتخاذهم ومن وراءهم أعداء وما يفوز بأكثر أموالكم إلا الأعراب والشذاذ من الناس فلو أنه حين ظفر بهم دعاهم إلى أن يؤدي كل رجل منهم دينارا ويطلقهم ويؤمنهم لم يكره ذلك منهم أحد وخف عليهم وسهل وحج الناس من كل بلد لأنهم ظمأى إلى ذلك جدا ولم يبق ملك إلا كاتبه وهاداه واحتاج إليه في حفظ أهل بلده وخاصته وجاء في كل سنة من المال ما لا يصير لسلطان مثله من الخراج واستولى على الأرض وانقاد له الناس وإن منع من ذلك سلطان اكتسب المذمة وصار عند الناس هو المانع من الحج. فاستصوب القرمطي هذا الرأي ونادى من وقته في الناس بالأمان وأحضر الخراسانية فوطأ أمرهم على أنهم يحجوا ويؤدوا إليه المال في كل سنة ويكونوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وأخرج أهل مصر أيضاً عن الحاج ضرائب من مال السلطان ثم ولى تدبير العراق من لم ير ذلك دناءة ولا منقصة فصار لهم على الحاج رسما بالكوفة. فلما كان سنة خمس وعشرين كبس أبو طاهر الكوفة وقبض على شفي اللؤلؤي أميرها بأمان فبعثه إلى السلطان يعرفه أنهم صعاليك لا بد لهم من أموال فإن أعطاهم مالا لم يفسدوا عليه وخدموه فيما يلتمسه وإلا فلا يجدوا بدا من أن يأكلوا بأسيافهم وبر أبو طاهر شفيعاً ووصله فوصل شفيع إلى السلطان وعرفه فبعث إليهم رجلا فناظر القرمطي وملأ صدره من السلطان وأتباعه فزاده انكسارا وسار عن البلد فابتلاه الله بالجدري وقتله فملك التدبير بعده أخوته وابن سنبر. فلما كان في سنة تسع وثلاثين أرادوا أن يستميلوا الناس فحملوا الحجر الأسود إلى الكوفة ونصبوه فيها على الاسطوانة بالجامع. وكان قد جاء عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الملقب زين العابدين : أن الحجر الأسود يعلق في مسجد الجامع بالكوفة في آخر الزمان. ثم قدم به سنبر بن الحسن بن سنبر إلى مكة وأمير مكة معه فلما صار بفناء البيت أظهر الحجر من سفط كان به مصونا وعلى الحجر ضباب فضة قد عملت عليه تأخذه طولا وعرضا تضبط شقوقاً حدثت فيه بعد انقلاعه وكان قد أحضر له صانع معه جص يشد به الحجر وحضر جماعة من حجبة البيت فوضع سنبر بن الحسن بن سنبر الحجر بيده في موضعه ومعه الحجبة وشده الصانع الجص بعد وضعه وقال لما رده: أخذناه بقدرة الله ورددناه بمشيئته. ونظر الناس إليه وقبلوه والتمسوه وطاف سنبر بالبيت. وكان قلع الحجر من ركن البيت يوم الإثنين لأربع عشرة خلت من ذي القعدة سنة سبع عشرة وكان رده يوم الثلاثاء لعشر خلون من ذي الحجة يوم النحر سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. فكانت مدة كينونته عند الجنابي وأصحابه اثنين وعشرين سنة إلا أربعة أيام. وكان في سنة ست عشرة وثلاثمائة قد تحركت القرامطة بسواد الكوفة عند انصراف أبي طاهر القرمطي عن بغداد إلى نحو الشام وتداعوا إلى الاجتماع في دار هجرتهم فكثروا وكبسوا نواحي الوسط وقتلوا خلقا كثيرا وملكوا ما حواه العسكر هناك من سلاح وغيره فقوى أمرهم وسار بهم عيسى بن موسى والحجازي وهما داعيان وكان الحجازي بالكوفة يبيع الخبز فصحب يزيد النقاش واجتمع عليهما غلمان وساروا فنهبوا وأخافوا والبلد ضعيف لاتصال الفتن وتخريب البوراني لسواده وضعف يد السلطان وطالبوا جميع أهل السواد بالرحيل إليهم فاجتمعوا نحو العشرة آلاف وفرقوا العمال ورحلوا إلى الكوفة فدخلوها عنوة وهرب واليها وولوا على خراجها وعلى حربها وأحدثوا في الأذان ما لم يكن فيه فأنفذ السلطان إليهم جيشا فواقعهم فانهزموا وقتل منهم ما لا يحصى وغرق منهم وهرب الباقون وحملت الأسرى إلى بغداد فقتلوا وصلبوا وحبس عيسى بن موسى مدة ثم تخلص بغفلة السلطان وحدوث الفتن آخر أيام المقتدر فأقام ببغداد يدعو الناس ووضع كتبا نسبها إلى عبدان الداعي نسبه فيها إلى الفلسفة وأنه يعلم ما يكون قبل كونه فصار له أتباع وأفسد فسادا عظيما وصار له وأما خراسان فقدم إليها بالدعوة أبو عبد الله الخادم فأول ما ظهرت بنيسابور فاستخلف عند موته أبا سعيد الشعراني وصار منهم خلق كثير هناك من الرؤساء وأصحاب السلاح. وانتشرت في الري من رجل يعرف بخلف الحلاج وكان يحلج القطن فصرف بها طائفة الخلفية وهم خلق كثير ومال إليهم قوم من الديلم وغيرهم وكان منهم أسفار فلما قتل مرداويج أسفار عظمت شوكة القرامطة في أيامه بالري وأخذوا يقتلون الناس غيلةً حتى أفنوا خلقا كثيرا. ثم خرج مرداويج إلى جرجان لقتال نصر بن أحمد الساماني فنفر عليهم وقتلهم مع صبيانهم ونسائهم حتى لم يبق منهم أحد وصار بعضهم إلى مفلح غلام ابن أبي الساج فاستجاب له ودخل في دعوته. فلما كان في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وقد استعد الحسن بن عبيد الله بن طغج بالرملة لقتال من يرد عليه من قبل جوهر القائد فورد عليه الخبر بأن القرامطة تقصده ووافت الرملة فهزموا الحسن بن عبيد الله ثم جرى بينهم صلح وصاهر إليهم في ذي الحجة منها فأقام القرمطي بظاهر الرملة ثلاثين يوما ورحل. وسار جعفر بن فلاح من مصر فهزم الحسن بن عبيد الله بن طغج وقتل رجاله وأخذه أسيرا فسار إلى دمشق فنزل بظاهرها فمنعه أهل البلد وقاتلوه قتالا شديدا ثم إنه دخلها بعد حروب وفر منه جماعة منهم ظالم بن موهوب العقيلي ومحمد بن عصودا فلحقا بالأحساء إلى القرامطة وحثوهم على المسير إلى الشام فوقع ذلك منهم بالموافقة لأن الإخشيدية كانت تحمل إليهم في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار فلما صارت عساكر المعز إلى مصر مع جوهر وزالت الدولة الاخشيدية انقطع المال عن القرامطة فسارت. بعد أن بعثوا عرفاءهم لجمع العرب فنزلوا الكوفة وراسلوا السلطان ببغداد فأنفذ إليهم خزانة سلاح وكتب لهم بأربعمائة ألف درهم على أبي تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان ورحلوا إلى الرحبة وعليها أبو تغلب فحمل إليهم العلوفة والمال الذي كتبا به لهم. وجمع جعفر بن فلاح أصحابه واستعد لحربهم فتفرق الناس عنه إلى مواضعهم ولم يفكروا بالموكلين على الطرق وكان رئيس القرامطة الحسن بن أحمد بن أبي سعيد الجنابي فبعث إليه أبو تغلب يقول: هذا شيء أردت أن أسير أنا فيه بنفسي وأنا مقيم في هذا الموضع إلى أن يرد علي خبرك فإن احتجت إلى مسيري سرت إليك. ونادى في عسكره: من أراد المسير من الجند الإخشيدية وغيرهم إلى الشام مع الحسن بن أحمد فلا اعتراض لنا فخرج إلى عسكر القرمطي جماعة من عسكر أبي تغلب وفيهم كثي من الإخشيدية الذين كانوا بمصر صاروا إليه لما دخل جوهر من مصر وفلسطين وكان سبب هذا الفعل من أبي تغلب أن جعفر بن فلاح كان قد أنفذ إليه من طبرية داعيا يقال له أبو طالب التنوخي من أهل الرملة يقول له: إني سائر إليك فنقيم الدعوة فقال له أبو تغلب وكان بالموصل: هذا ما لا يتم لأنا في دهليز بغداد والعساكر قريبة منا ولكن إذا قربت عساكركم من هذه الديار أمكن ما ذكرتم. فانصرف من عنده على غير شيء. وبلغ ذلك القرمطي فسره وزاده قوة وسار عن الرحبة فأشار أصحاب جعفر لما قارب القرامطة دمشق أن يقاتلهم بطرف البرية فخرج إليهم وواقعهم فانهزم وقتل لست خلون من ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة. ونزل القرمطي ظاهرة المزة فجبى مالا وسار يريد الرملة وعليها سعادة ابن حيان فالتجأ إلى يافا ونزل عليه القرمطي وقد اجتمعت إليه عرب الشام وأتباع من الجند فناصبها القتال حتى أكل أهلها الميتة وهلك أكثرهم جوعا ثم سار عنها وترك على حصارها ظالم العقيلي وأبا الهيجا بن منجا وأقام القرامطة الدعوة للمطيع لله العباسي في كل بلد فتحوه وسودوا أعلامهم ورجعوا عما كانوا يمخرقون به وأظهروا أنهم كأمراء النواحي الذين من قبل الخليفة العباسي. ونزل على مصر أول ربيع الأول سنة إحدى وستين وثلاثمائة فقاتله جوهر على الخندق وهزمه فرحل إلى الأحساء. وأنفذ جوهر جيشا نحو يافا فملكوها ورحل المحاصرون لها إلى دمشق ونزلوا بظاهرها فاختلف ظالم العقيلي وأبو الهيجا بسبب الخراج فكان كل منهما يريد أخذه للنفقة في رجاله وكان أبو الهيجا أثيرا عند القرمطي يولج إليه أموره ويستخلفه على تدبيره. ورجع الحسن بن أحمد القرمطي من الأحساء فنزل الرملة ولقيه أبو الهيجا وظالم وبلغه ما جرى بينهما من الاختلاف فقبض على ظالم واعتقله مدة ثم خلى عنه. وطرح القرمطي مراكب في البحر وشحنها بالمقاتلة وسيرها إلى تنيس وغيرها من سواحل مصر وجمع من قدر عليه من العرب وغيرهم وتأهب للمسير إلى مصر هذا بعد أن كان القرامطة أولا يمخرقون بالمهدي ويوهمون أنه صاحب المغرب وأن دعوتهم إليه ويراسلون الإمام المنصور إسماعيل بن محمد القائم بن عبيد الله المهدي ويخرجون إلى أكابر أصحابهم أنهم من أصحابه إلى أن افتضح كذبهم بمحاربة القائد جوهر لهم وقتله كثيرا منهم وكسره القبة التي كانت لهم. فلما نزل المعز لدين الله القاهرة عند ما قدم من المغرب وقد تيقن أخبار القرامطة كتب إلى من عبد الله ووليه وخيرته وصفيه معد أبي تميم المعز لدين الله أمير المؤمنين وسلالة خيبر النبيين ونجل على أفضل الوصيين إلى الحسن بن أحمد: بسم الله الرحمن الرحيم رسوم النطقاء ومذاهب الأئمة والأنبياء ومسالك الرسل والأوصياء السالف والآنف منا صلوات الله علينا وعلى آبائنا أولى الأيدي والأبصار في متقدم الدهور والأكوار وسالف الأزمان والأعصار عند قيامهم بأحكام الله وانتصابهم لأمر الله الابتداء بالإعذار والانتهاء بالإنذار قبل إنفاذ الأقدار في أهل الشقاق والأصار لتكون الحجة على من خالف وعصى والعقوبة على من باين وغوى حسب ما قال الله جل وعز: " و " وقوله سبحانه: " " أما بعد أيها الناس فإنا نحمد الله بجميع محامده ونمجده بأحسن مماجده حمداً دائماً أبداً ومجداً عالياً سرمداً على سبوغ نعمائه وحسن بلائه ونبتغي إليه الوسيلة بالتوفيق والمعونة على طاعته والتسديد في نصرته ونستكفيه ممايلة الهوى والزيغ عن قصد الهدى ونستزيد منه إتمام الصلوات وإفاضات البركات وطيب التحيات على أوليائه الماضين وخلفائه التالين منا ومن آبائنا الراشدين المهديين المنتخبين الذين قضوا بالحق وكانوا به يعدلون. أيها الناس: " أيها الناس: إن الله جل وعز إذا أراد أمراً قضاه وإذا قضاه أمضاه وكان من قضائه فينا قبل التكوين أن خلقنا أشباحا وأبرزنا أرواحا بالقدرة مالكين وبالقدوة قادرين حين لاسماء مبنية ولا أرض مدحية ولا شمس تضيء ولا قمر يسري ولا كوكب يجري ولا ليل يجن ولا أفق يكن ولا لسان ينطق ولا جناح يخفق ولا ليل ولا نهار ولا فلك دوار ولا كوكب سيار. فنحن أول الفكرة وآخر العمل بقدر مقدور وأمر في القدم مبرور فعند تكامل الأمر وصحة العزم وإنشاء الله جل وعز المنشآت وإبداء الأمهات من الهيولات طبعنا أنوارا وظلما وحركة وسكونا. وكان من حكمه السابق في علمه ما ترون من فلك دوار وكوكب سيار وليل ونهار وما في الآفاق من آثار معجزات وأقدار باهرات وما في الأقطار من الآثار وما في النفوس من الأجناس والصور والأنواع من كثيف ولطيف وموجود ومعدوم وظاهر وباطن ومحسوس وملموس ودان وشاسع وهابط وطالع. كل ذلك لنا ومن أجلنا دلالةً علينا وإشارةً إلينا يهدي به الله من كان له لب سجيح ورأى صحيح قد سبقت له منا الحسنى فدان بالمعنى. ثم إنه جل وعلا أبرز من مكنون العلم ومخزون الحكم آدم وحوا أبوين ذكرا وأنثى سببا لإنشاء البشرية ودلالة لإظهار القدرة القوية وزاوج بينهما فتوالدا الأولاد وتكاثرت الأعداد ونحن ننتقل في الأصلاب الزكية والأرحام الطاهرة المرضية كلما ضمنا صلب ورحم أظهر منا قدرة وعلم وهلم جرا إلى آخر الجد الأول والأب الأفضل سيد المرسلين وإمام النبيين أحمد ومحمد صلوات الله عليه وعلى آله في كل ناد ومشهد فحسن آلاؤه وبان غناؤه وأباد المشركين وقصم الظالمين وأظهر الحق واستعمل الصدق وظهر بالأحدية ودان بالصمدية فعندها سقطت الأصنام وانعقد الإسلام وانتشر الإيمان وبطل السحر والقربان وهبرت الأوثان وأتى بالقرآن شاهدا بالحق والبرهان فيه خبر ما كان وما يكون إلى يوم الوقت المعلوم منبئا عن كتب تقدمت في صحف قد تنزلت تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة ونورا وسراجا منيرا. وكل ذلك دلالات لنا ومقدمات بين أيدينا وأسباب لإظهار أمرنا هدايات وآيات وشهادات وسعادات قدسيات إلاهيات أزليات كائنات منشآت مبدئات معيدات فما من ناطق نطق ولا نبي بعث ولا وصي ظهر إلا وقد أشار إلينا ولوح بنا ودل علينا في كتابه وخطابه ومنار أعلامه ومرموز كلامه فيما هو موجود غير معدوم وظاهر وباطن يعمله من سمع الندا وشاهد ورأى من الملأ الأعلى فمن أغفل منكم أو نسى أو ضل أو غوى فلينظر في الكتب الأولى والصحف المنزلة وليتأمل آي القرآن وما فيه من البيان وليسأل أهل الذكر إن كان لا يعلم فقد أمر الله عز وجل بالسؤال فقال: " وقال سبحانه وتعالى: " ألا تسمعون قول الله حيث يقول: " وقوله له العزة: " ومما دل به علينا وأنبأ به عنا قوله عز وجل: " وقوله في تفضيل الجد الفاضل والأب الكامل محمد صلى الله عليه وعليه السلام إعلاما بجليل قدرنا وعلو أمرنا: " هذا مع ما أشار ولوح وأبان وأوضح في السر والإعلان من كل مثل مضروب وآية وخبر وإشارة ودلالة حيث يقول: " وقال سبحانه وتعالى: " وقوله جل وعز: " فإن اعتبر معتبر وقام وتدبر ما في الأرض وما في الأقطار والآثار وما في النفس من الصور المختلفات والأعضاء المؤتلفات والآيات والعلامات والاتفاقات والاختراعات والأجناس والأنواع وما في كون الإبداع من الصور البشرية والآثار العلوية وما يشهد به حروف المعجم والحساب المقوم وما جمعته الفرائض والسنن وما جمعته السنون من فصل وشهر ويوم وتصنيف القرآن من تحزيبه وأسباعه ومعانيه وأرباعه وموضع الشرائع المتقدمة والسنن المحكمة وما جمعته كلمة الإخلاص في تقاطيعها وحروفها وفصولها وما في الأرض من إقليم وجزيرة وبر وبحر وسهل وجبل وطول وعرض وفوق وتحت إلى ما اتفق عليه في جميع الحروف من أسماء المدبرات السبعة النطقا والأوصيا والخلفا وما صدرت به الشرائع من فرض وسنة وحدوثة وما في الحساب من أحاد وأفراد وأزواج وأعداد تثاليثه وترابيعه واثنى عشريته وتسابيعه وأبواب العشرات والمئين والألوف وكيف تجتمع وتشتمل على ما اجتمع عليه ما تقدم من شاهد عدل وقول صدق وحكمة حكيم وترتيب عليم. فلا إله إلا هو له الأسماء الحسنى والأمثال العلى. " وليعلم من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أنا كلمات الله الأزليات وأسماؤه التامات وأنواره الشعشعانيات وأعلامه النيرات ومصابيحه البينات وبدائعه المنشآت وآياته الباهرات وأقداره النافذات لا يخرج منا أمر ولا يخلو منا عصر. وإنا لكما قال الله سبحانه وتعالى: " فاستشعروا النظر فقد نقر في الناقور وفار التنور وأتى النذير بين يدي عذاب شديد فمن شاء فلينظر ومن شاء فليتدبر وما على الرسول إلا البلاغ المبين. وكتابنا هذا من فسطاط مصر وقد جئناها على قدر مقدور ووقت مذكور فلا نرفع قدماً ولا نضع قدماً إلا بعلم موضوع وحكم مجموع وأجل معلوم وأمر قد سبق وقضاء قد تحقق. فلما دخلنا وقد قدر المرجفون من أهلها أن الرجفة تنالهم والصعقة تحل بهم تبادروا وتعادوا شاردين وجلوا عن الأهل والحريم والأولاد والرسوم وإنا لنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فلم أكشف لهم خبرا ولا قصصت لهم أثرا ولكني أمرت بالنداء وأذنت بالأمان لكل باد وحاضر ومنافق ومشاقق وعاص ومارق ومعاند ومسابق ومن أظهر صفحته وأبدى لي سوءته فاجتمع الموافق والمخالف والباين والمنافق فقابلت الولي بالإحسان والمسيء بالغفران حتى رجع الناد والشارد وتساوى الفريقان واتفق الجمعان وانبسط القطوب وزال الشحوب جريا على العادة بالإحسان والصفح والامتنان والرأفة والغفران فتكاثرت الخيرات وانتشرت البركات. كل ذلك بقدرة ربانية وأمرة برهانية فأقمت الحدود بالبينة والشهود في العرب والعبيد والخاص والعام والبادي والحاضر بأحكام الله عز وجل وآدابه وحقه وصوابه فالولي آمن جذلن والعدو خائف وجل. فأما أنت الغادر الخائن الناكث البائن عن هدى آبائه وأجداده المنسلخ عن دين أسلافه وأنداده والموقد لنار الفتنة والخارج عن الجماعة والسنة فلم أغفل أمرك ولا خفي عني خبرك ولا استتر دوني أثرك وإني منى لبمنظر ومسمع كما قال الله جل وعز: " فعرفنا على أي رأي أصلت وأي طريق سلكت: أما كان لك بجدك أبي سعيد أسوة وبعمل أما نظرت في كتبهم وأخبارهم ولا قرأت وصاياهم وأشارهم أكنت غائبا عن ديارهم وما كان من آثارهم ألم تعلم أنهم كانوا عبادا لنا أولى بأس شديد وعزم سديد وأمر رشيد وفعل حميد يفيض إليهم موادنا وينشر عليهم بركاتنا حتى ظهروا على الأعمال ودان لهم كل أمير ووال ولقبوا بالسادة فسادوا منحةً منا واسما من أسمائنا فعلت أسماؤهم واستعلت هممهم واشتد عزمهم فسارت إليهم وفود الآفاق وامتدت نحوهم الأحداق وخضعت لهيبتهم الأعناق وخيف منهم الفساد والعناد وأن يكونوا لبني العباس أضداد فعبئت الديوش وسار إليهم كل خميس بالرجال المنتجبة والعدد المهذبة والعساكر الموكبة فلم يلقهم جيش إلا كسروه ولا رئيس إلا أسروه ولا عسكر إلا كسروه وألحاظنا ترمقهم ونصرنا يلحقهم كما قال الله جل وعز: " فلم يزل ذلك دأبهم وعين الله ترمقهم إلى أن اختار لهم ما اختاروه من نقلهم من دار الفناء إلى دار البقاء ومن نعيم يزول إلى نعيم لا يزول فعاشوا محمودين وانتقلوا مفقودين إلى روح ومع هذا فما من جزيرة في الأرض ولا إقليم إلا ولنا فيه حجج ودعاة يدعون إلينا ويدلون علينا ويأخذون بيعتنا ويذكرون رجعتنا وينشرون علمنا وينذرون بأسنا ويبشرون بأيامنا بتصاريف اللغات واختلاف الألسن وفي كل جزيرة وإقليم رجال منهم يفقهون وعنهم يأخذون وهو قول الله عز وجل. " وأنت عارف بذلك. فيأيها الناكث الحانث ما الذي أرداك وصدك أشيء شككت فيه أم أمر استربت به أم كنت خليا من الحكمة وخارجاً عن الكلمة فأزلك وصدك وعن السبيل ردك إن هي إلا فتنة لكم ومتاع إلى حين. وأيم لله لقد كان الأعلى لجدك والأرفع لقدرك والأفضل لمجدك والأوسع لوفدك والأنضر لعودك والأحسن لعذرك الكشف عن أحوال سلفك وإن خفيت عليك والقفو لآثارهم وإن عميت لديك لتجري على سننهم وتدخل في زمرهم وتسلك في مذهبهم أخذاً بأمورهم في وقتهم وزيهم في عصرهم فتكون خلفاً قفا سلفاً بجد وعزم مؤتلف وأمر غير مختلف. لكن غلب الران على قلبك والصدى على لبك فأزالك عن الهدى وأزاغك عن البصيرة " ثم لم تقنع في انتكاسك وترديتك في ارتكاسك وارتباكك وانعكاسك من خلافك الآباء ومشيك القهقرى والنكوص على الأعقاب والتسمي بالألقاب بئس الإسم الفسوق بعد الإيمان وعصيانك مولاك وجحدك ولاك حتى انقلبت على الأدبار وتحملت عظيم الأوزار لتقيم دعوةً قد درست ودولة قد طمست إنك لمن الغاوين وإنك لفي ضلال مبين. أم تريد أن ترد القرون السالفة والأشخاص الغابرة أما قرأت كتاب السفر وما فيه من نص وخبر فأين يذهبون إن هي إلا حياتكم الدنيا تموتون وتظنون أنكم لستم بمبعوثين " أما علمت أن المطيع آخر ولد العباس وآخر المترايس في الناس أما تراهم " فقد ضل عملك وخاب سعيك وطلع نحسك وغاب سعدك حين آثرت الحياة الدنيا على الآخرة ومال بك الهوى فأزالك عن الهدى فإن تكفر أنت ومن في الأرض جميعا فإن الله هو الغنى الحميد. ثم لم يكفك ذلك مع بلائك وطول شقائك حتى جمعت أرجاسك وأنجاسك وحشدت أوباشك وأقلاسك وسرت قاصدا إلى دمشق وبها جعفر بن فلاح في فئة قليلة من كتامة وزويلة فتلته وقتلتهم جرأة على الله وردا لأمره واستبحت أموالهم وسبيت نساءهم وليس بينك وبينهم ترة ولا ثأر ولا حقد ولا أضرار فعل بني الأصفر والترك والخزر ثم سرت أمامك ولم ترجع وأقمت على كفرك ولم تقلع حتى أتيت الرملة وفيها سعادة بن حيان في زمرة قليلة وفرقة يسيرة فاعتزل عنك إلى يافا مستكفيا شرك وتاركا حربك فلم تزل ماكثا على نكثك باكرا وصابحا وغاديا ورائحا تقعد لهم بكل مقعد وتأخذ عليهم بكل مرصد وتقعدهم بكل مقصد كأنهم ترك وروم وخزر لا ينهك عن سفك الدماء دين ولا يردعك عهد ولا يقين قد استوعب من الردي حيزومك وانقسم على الشقاء خرطومك. أما كان لك مذكر وفي بعض أفعالك مزدجر أو ما كان لك في كتاب الله عز وجل معتبر حيث يقول: " أتراك تحسب أنك مخلد أم لأمر الله راد أم " هيهات لا خلود لمذكور ولا مرد لمقدور ولا طافىء لنور ولا مقر لمولود ولا قرار لموعود لقد خاب منك الأمل وحان لك الأجل فإن شئت فاستعد للتوبة بابا وللنقلة جلبابا فقد بلغ الكتاب أجله والوالي أمله وقد رفع الله قبضته عن أفواه حكمته ونطق من كان بالأمس صامتا ونهض من كان هناك خائفا ونحن أشباح فوق الأمر والنفس دون العقل وأرواح في القدس نسبة ذاتية وآيات لدنية نسمع ونرى " ونحن معرضون ثلاث خصال والرابعة أردى لك وأشقى لبالك وما أحسبك تحصل إلا عليها فاختر: إما قدت نفسك لجعفر بن فلاح وأتباعك بأنفس المستشهدين معه بدمشق والرملة من رجاله ورجال سعادة بن حيان ورد جميع ما كان لهم من رجال وكراع ومتاع إلى آخر حبة من عقال ناقة وخطام بعير وهي أسله ما يرد عليك . وإما أن تردهم أحياء في صورهم وأعيانهم وأموالهم وأحوالهم ولا سبيل لك إلى ذلك ولا اقتدار . وإما سرت ومن معك بغير زمام ولا أمان فأحكم فيك وفيهم بما حكمت وأجريك على إحدى ثلاث: إما قصاص وإما منا بعد وإما فدى فعسى أن يكون تمحيصا لذنوبك وإقالة لعشرتك. وإن أبيت إلا فعل اللعين: " أخرج منها فما يكون لك أن تتكبر فيها وقيل اخسئوا فيها ولا تكلمون فما أنت إلا كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار فلا سماء تظلك ولا أرض تقلك ولا ليل يجنك ولا نهار يكنك ولا علم يسترك ولا فئة تنصرك قد تقطعت بكم الأسباب وأعجزكم الذهاب فأنتم كما قال الله عز وجل: " فلا ملجأ لكم من الله يومئذ ولا منجى منه وحنود الله في طلبك قافية لا تزال ذو أحقاد وثوار أهجاد ورجال أنجاد فلا تجد في السماء مصعدا ولا في الأرض مقعدا ولا في البر ولا في البحر منهجا ولا في الجبال مسلكاً ولا إلى الهواء سلما ولا إلى مخلوق ملتجا. حينئذ يفارقك أصحابك ويتخلى عنك أحبابك ويخذلك أترابك فتبقى وحيداً فريداً وخائفاً طريداً وهائماً شريداً قد ألجمك العرق وكظك القلق وأسلمتك ذنوبك وازدراك خزيك " واعلم أنا لسنا بممهليك ولا مهمليك إلا ريثما يرد كتابك ونقف على فحوى خطابك فانظر لنفسك يا شقي ليومك ومعادك قبل انغلاق باب التوبة وحلول وقت النوبة حينئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً. وإن كنت على ثقة من أمرك ومهل في أمر عصرك وعمرك فاستقر بمركزك وأربع على ضلعك فلينالنك ما نال من كان قبلك من عاد وثمود " فما أنت وقومك إلا كمناخ نعم أو كمراح غنم فإما نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون وأنت في القفص مصفودا ونتوفنيك فإلينا مرجعهم فعندها تخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين " فليتدبر من كان ذا تدبر وليتفكر من كان ذا تفكر وليحذر يوم القيامة من الحسرة والندامة " والسلام على من اتبع الهدى وسلم من عواقب الردى وانتمى إلى الملأ الأعلى وحسبنا الله الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا النبي الأمى والطيبين من عترته وسلم تسليماً. فأجاب الحسن بن الأعصم بما نصه: من الحسن بن أحمد القرمطي الأعصم: بسم الله الرحمن الرحيم وصل إلينا كتابك الذي كثر تفصيله وقل تحصيله ونحن سائرون على إثره والسلام وحسبنا الله ونعم الوكيل. وسار الحسن بن أحمد القرمطي بعد ذلك إلى مصر فنزل بعسكره بلبيس وبعث إلى الصعيد بعبد الله بن عبيد الله أخي الشريف مسلم وانبثت سراياه في أرض مصر فتأهب المعز وعرض عساكره في ثالث رجب سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وأمر بتفرقة السلاح على الرجال ووسع عليهم في الأرزاق وسير معهم الأشراف والعرب. وسير معهم المعز ابنه الأمير عبد الله فسار بمظلته وبين يديه الرجال والسلاح والكراع والبنود وصناديق الأموال والخلع وسير معه أولاده وجميع أهله وجمعاً من جند المصريين خلا الشريف مسلم فإنه أعفاه من ذلك. وانبسطت سرية القرمطي في نواحي أسفل الأرض فأنفذ المعز عبده ريان الصقلبي في أربعة ولثمان خلون منه قدمت سرية القرامطة إلى الخندق فبرز إليهم المغاربة فهزموهم ثم كروا على المغاربة فقتلوا منهم جماعةً وأسروا وفر إليهم علي بن محمد الخازن فالتحق بالقرامطة. وورد الخبر بأن عبد الله بن عبيد الله أخا مسلم أوغل في الصعيد وقتل واستخرج الأموال وأسرف في قتل المغاربة وأسرهم ثم كر راجعاً إلى خميم. ولست عشرة خلت منه جمع المعز أولاد الإخشيدية وغيرهم من الجند واعتقلهم. وفي سلخه طيف بتسعة من القرامطة على الإبل بالبرانس ومعهم ثلاث رؤوس وفيه سار عسكر المعز مع ابنه عبد الله فنزل جب عميرة ونزلت عسكر القرمطي نصفين: نصف مع النعمان أخي الحسن بن أحمد الأعصم مواجهة لعبد الله بن المعز ونصف مع الحسن بسطح الجب. فبعث عبد الله العساكر فأحاطت بالحسن بن أحمد وعسكر وزحف إلى النعمان فقاتله فانهزم وقتل مع أصحابه وواقع الآخرون الحسن حتى كاد أن يؤخذ فإنهم أحاطوا به وصار في وسطهم فاغتنم فرجة مضى على وجهه ونهب سواده وأخذت قبته وأسر رجاله وأخذ من عسكره وعسكر أخيه خلق كثير وأخذ جماعة ممن كان مع المصريين. ووصل الكتاب مع الطائر إلى عبد الله بن عبيد الله أخي مسلم بهزيمة القرامطة وهو بالصعيد فعدى إلى الجانب الشرقي لينقلب إلى الشام فبلغه مسير عساكر المعز فعاد إلى الجانب الغربي. وورد كتاب الطائر إلى المعز من الأمير عبد الله ابنه أن عبد الله أخا مسلم قد أخذ فأرسل المعز إلى أخيه أبي جعفر مسلم يخبره فخلع على البشير. وكانت في البرية سرية للمعز قد أخذوا الطريق على عبد الله أخي مسلم فوقع في أيديهم في الليل رجل بدوي فقال: أنا عبد الله أخو مسلم فجاء إلى الأمير عبد الله فكتب إلى الطائر يأخذ عبد الله فلما جيء بالبدوي من الغد إلى الأمير عبد الله وهو في معسكره وكان في مجلسه عبد الله بن الشويخ فقال للأمير عبد الله: ما هذا عمي عبد الله. فبطل القول. وكان خبر هذا البدوي أنه كان مع عبد الله أخي مسلم بالصعيد وعبر معه يريد الشام فأراد أن يسقي دوابه فقال له البدوي: ما نأمن أن يكون على الماء طلب فدعني أتقدمك فإن لم أجد أحداً جئتك وإن أبطأت عليك فاعلم أني أخذت. فلما وافى البدوي البئر أخذ فقال لهم: أنا عبد الله أخو مسلم ليشغلهم عن طلبه فلما أبطأ البدوي على عبد الله علم أن الطلب قد أخذوه فكر راجعاً وعاد إلى الجانب الغربي وركب البحر إلى عينونا ومضى إلى الحجاز. وكان هاروق على عسكر للمعز فرأى أصحابه عبد الله فأفلت منهم على فرس دهماء عربية بعد ما حط قبته وقطعها بسيفه فظفر هاروق بنوقه ووصل عبد الله إلى المدينة النبوية وجلس يتحدث في المسجد فقبل له: إن الكتب قد سبقتك وبذل فيك مال عظيم. فنهض لوقته وتوجه إلى الأحساء فاستنهض القرامطة فلم يكن فيهم نهضة فوبخهم لما رأى من عجزهم وقال: أروني ما عندكم من القوة التي تقاومون بها صاحب مصر. فأوقفوه على ما عندهم من المال والسلاح والكراع فاستقله وقال: بهذا تقاومون صاحب مصر والشامات والمغرب. وانصرف عنهم إلى العراق فأتبعوه برجل يقال إنه من بني سنبر فسمه في لبن بموضع يقال له النصيرية على ميلين من البصرة فقام مائتي مجلس في ليلة ومات بموضعه فغسل وكفن وأدخل وورد الخبر بذلك إلى المعز فأخبر الناس بموته وموت المطيع فإن ابنه سمه أيضا كما سمت القرامطة عبد الله أخا مسلم. وأما أخبار القرامطة ففي كتب المؤرخين من المشارقة المتعصبين على الدولة الفاطمية أن سبب انهزام الحسن بن أحمد القرمطي من عساكر المعز أن العرب لما أنكت بمسير سراياها أرض مصر رأى المعز أن يفل عساكر القرامطة وجموعهم بمخادعة حسان بن الجارح الطائي أمير العرب ببلاد الشام وكان قدم مع القرمطي في جمع عظيم قوى به عسكر القرمطي فبعث المعز إلى ابن الجارح وبذل له مائة ألف دينا على أن يفل عسكر القرمطي فأجاب إلى ذلك وأن المعز استكثر المال فعمل دنانير من نحاس وطلاها بالذهب وجعلها في أكياس ووضع على رأس كل كيس منها دنانير يسيرة من الذهب ليغطي ما تحتها وشدت الأكياس وحملت إلى ثقة من ثقات ابن الجراح بعد ما كانوا استوثقوا منه وعاهدوه أنه لا يغدر بهم فلما وصل إليه المال تقدم إلى كبراء أصحابه بأن يتبعوه إذا تواقف العسكران وقامت الحرب فلما اشتد القتال ولي ابن الجراح منهزما واتبعه أصحابه وكان في جمع كبير فلما رآه القرمطي وقد انهزم تحير فكان جهده أن قاتل بمن معه حتى تخلص وكانوا قد أحاطوا به من كل جانب فخشى على نفسه وانهزم واتبعوه ودخلوا عسكره فظفروا منه بنحو ولما كان لخمس بقين من شعبان أنفذ المعز أبا محمود إبراهيم بن جعفر إلى الشام خلف القرمطي في عسكر يقال مبلغه عشرون ألفا فظفر في طريقه بجماعة من أصحاب القرمطي فبعث بهم إلى مصر. وسار الحسن بن أحمد القرمطي فنزل أذرعات وأنفذ أبا الهيجا في طائفة إلى دمشق. وبعث المعز إلى ظالم بن موهوب العقيلي لما بلغه ما وقع بينه وبين القرمطي فاستماله ليكون عوناً على القرمطي فسار يريد بعلبك فوافاه الخبر بهزيمة القرمطي ونزول أبي الهيجا دمشق فسار القرمطي ودخل البرية يريد بلده وفي نيته العود. وكان للحسن بن أحمد القرمطي هذا شعر فمنه في أصحاب المعز لدين الله: زعمت رجال الغرب أنّى هبتها فدمى إذاً ما بينهم مطلول يا مصر إن لم أسق أرضك من دمٍ يروى ثراك فلا سقاك النيل ولما كان في سنة خمس وسبعين وثلاثمائة ورد إسحق وجعفر الهجريان من القرامطة فملكا الكوفة وخطبا لشرف الدولة فانزعج الناس لذلك لما في النفوس من هيبتهم وبأسهم وكان من الهيبة ما أن عضد الدولة بن بويه وبختيار أقطعاهم الكثير وكان لهم ببغداد نائب يعرف بأبي بكر بن ساهويه يتحكم تحكم الوزراء فقبض عليه صمصام الدولة بن عضد الدولة فلما ورد القرامطة الكوفة كتب إليهما صمصام الدولة يتلطفهما ويسألهما عن سبب حركتهما فذكرا أن قبض نائبهم هو السبب في قصدهم البلاد وبثا أصحابهما فجبوا المال فأرسل صمصام الدولة العساكر ومعهم العرب فعبروا الفرات إليه وقاتلوه وأسروا فانجلت الوقائع بينهم وبين العساكر عن هزيمة القرامطة وقتل مقدمتهم في جماعة وأسر عدة ونهب سوادهم فرحل من بقي منهم من الكوفة وتبعهم العساكر إلى القادسية فلم يدركوهم وزال من حينئذ بأسهم. وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة جمع شخص يعرف بالأصفر من بني المنفق جمعا كثيرا وكان بينه وبين جمع من القرامطة وقعة شديدة قتل في مقدم القرامطة وانهزم أصحابه وقد قتل منهم وأسر كثير فسار الأصفر إلى الأحساء وقد تحصن منه القرامطة بها فعدى إلى القطيف وأخذ ما كان فيها من مال وعبيد ومواشي وسار بها إلى البصرة.
|